«الحرب، شركة» (War, Inc، 2008)
١. لماذا هذا الفيلم مهم؟
في عامَي 2007 و2008، كانت رئاسة جورج بوش الابن تقترب من نهايتها، وكانت حرب العراق تدخل عامها السادس، وكان الإعلام الأمريكي يتحدث كثيرًا عن “إرهاق الحرب”.
في هذا المناخ، قرر جون كيوزاك، الممثل الشهير في كوميديات التسعينات، أن يصنع هجاءً أسود حول خصخصة الحرب.
أخرج الفيلم جوشوا سيفتل، لكن الشخصية المحورية للمشروع كانت كيوزاك نفسه: هو من قدّم الفكرة، وكتب السيناريو بمشاركة مارك لاينر وجيريمي بيكسر، وأنتج الفيلم، ولعب الدور الرئيسي.
تدور أحداث القصة في دولة خيالية تُدعى “توركستان”، اسم يختلف بحرف واحد فقط عن “عراقستان”، وهي إشارة صريحة إلى هدف الفيلم.
عُرض الفيلم لأول مرة في مهرجان تريبيكا بنيويورك.
وقد انقسمت آراء النقاد حياله: فبينما امتدحه البعض بوصفه “حادًا وساخرًا”، انتقده آخرون باعتباره “مزدحمًا أكثر من اللازم” وغير ناجح.
وعلى الرغم من فشله في شباك التذاكر، إلا أنه أصبح عملًا مميزًا وذو قيمة لدى أولئك الغاضبين من خصخصة الحرب وشركات الأمن مثل بلاك ووتر.
٢. لنروي القصة بشكل خطي وواضح
هانك برولين (يؤديه جون كيوزاك) مرتزق محترف؛ ليس جنديًا رسميًا ولا عميلًا لدى الـCIA، بل مقاول خاص يعمل لصالح شركة عملاقة تُدعى “تمرلين”.
تمثل تمرلين نسخة خيالية من شركات النفط والأمن الكبرى مثل هاليبرتون: شركة تنهب نفط توركستان، وتملك جيشًا خاصًا، ولديها قنوات فضائية للترويج الإعلامي.
الشخصية التي تدير تمرلين من وراء الستار هو واكي ويلكس (بن كينغسلي)، رجل يجلس في مكتبه الفخم في واشنطن مرتديًا سترة حريرية، ويُبقي طائره المدلل “بيل” متصلًا بخط الهاتف الفضائي.
ظاهريًا، كُلِّف هانك بإقامة “معرض تجاري – ثقافي” يُدعى Brand USA Expo؛ واجهة ملونة تبيع فيها الشركات الأمريكية كل شيء، من الميكروفونات إلى دبابات مضادة للألغام.
لكن مهمته الحقيقية مختلفة:
اغتيال عمر شريف، وزير النفط الجديد في توركستان، الذي يعتزم مراجعة العقود النفطية، مما يهدد مصالح تمرلين.
ولإخفاء مهمته، يؤسس هانك محل بيتزا متنقل باسم “جوني بيتزا”.
ويعمل معه فتى من أصل تركي يكرر باستمرار شعار “معجزة الرأسمالية”.
خلال مهمته، يلتقي هانك بشخصيتين تعقّدان خطته:
ناتالي هاورستراك (ماريزا تومي)، صحفية أمريكية فضولية تشكك في خلفيات المعرض،
ويوكي أفالانوف (هِيلياري داف)، نجمة بوب من دولة خيالية تُدعى “أفازستان” (في إشارة إلى دول آسيا الوسطى)، والمقرّر أن تُقدم عرضًا ثقافيًا رمزيًا في حفل الافتتاح برفقة فيل حيّ.
في شوارع المدينة، تنتشر ملصقات يوكي، وتصدح مكبرات الصوت بأغنيتها: “الحب يعني السوق الحرة”.
على هانك أن يحافظ على الصورة الترويجية ليوكي، ويغتال الوزير، وينهي المعرض دون فضائح.
التحول الأول في القصة يحصل حين يكتشف هانك أن الطفل الذي ينظف زجاج السيارات وقد فقد يده، هو نفسه الطفل الذي تيتم قبل ثلاث سنوات نتيجة إحدى عملياته.
شعور بالذنب يبدأ بتمزيق قناع البرود الذي يخفيه هانك.
التحول الثاني يحدث عندما تظهر يوكي، على خلاف مظهرها الساذج، فتاة ذكية وانتهازية وواعية سياسيًا؛ تعرف تمامًا أن صناعة الترفيه التي تمثلها ما هي إلا واجهة لفساد نفطي، لكنها تطمح للحصول على نصيب أكبر.
التحول الثالث يحصل حين تلتقط ناتالي، الصحفية، بكاميرا هاتفها مقاطع من خلف كواليس المعرض، توثق فيها نقل الجثث سرًا.
تمرلين، عبر مرتزقتها، تقمع المحتجين وتخفي الخسائر البشرية.
في النهاية، يقرر هانك ألا يغتال الوزير.
لكن طائرة بدون طيار تابعة لتمرلين تتدخل، وتنفذ عملية الاغتيال عبر صاروخ.
الفوضى السياسية المقصودة تتحقق، مما يؤدي إلى إلغاء العقود الجديدة.
يهرب هانك مع ناتالي ويوكي والطفل اليتيم في شاحنة.
وفي الطريق، بينما يتردد في أذنيه صراخ رئيس الشركة: “الحرب تعني التجارة، والتجارة تعني الحرب. ما دام هناك نفط، فعملك مضمون”،
يهمس هانك لنفسه: “ربما انتهى عملي هنا.”
في اللقطة الأخيرة، يظهر علم تمرلين فوق مصفاة نفطية مشتعلة؛
رمزٌ واضح لوحشية استعمار النفط.
٣. ملاحظات إنتاجية وهوامش
الموقع:
تم تصوير معظم مشاهد الفيلم في بلغاريا، وذلك لخفض تكاليف الإنتاج.
شوارع صوفيا، بمزيج من اللافتات العربية والخط السيرِيلي، خلقت بيئة كاريكاتورية ومُبالغ فيها للدولة الخيالية “توركستان”.
الميزانية:
تراوحت ميزانية الفيلم في المصادر المختلفة بين 10 و12 مليون دولار،
لكن مبيعات شباك التذاكر في أمريكا لم تتجاوز مليون دولار.
أسلوب الفيلم الهزلي الساخر، إضافة إلى توزيعه المحدود في دور العرض، جعلاه غير مرئي على نطاق واسع.
الموسيقى:
ألّف الموسيقى الرئيسية ديفيد شولمر، لكن المقطع الأبرز في الفيلم من تأليف كلينت مانسيل، المؤلف الشهير لأفلام مثل The Fountain وRequiem for a Dream.
كما أدّت هيلاري داف، بصفتها “يوكي”، أغنية بسخرية واضحة، تقول فيها: «أريد أن أعمل لايك للشرق الأوسط!»
مقابلات جون كيوزاك:
في مقابلة مع مجلة مرموقة، قال كيوزاك إن فكرة الفيلم وُلدت من قراءته لأخبار شركات الأمن الخاصة مثل بلاك ووتر.
وأضاف: «عندما علمت أن شركات خاصة تُنشئ جيوشًا كاملة، ولا تخضع حتى للقانون الدولي، أدركت أنني بحاجة إلى السخرية منهم لكشف مدى رعبهم الحقيقي.»
٤. ما الذي نجح في الفيلم؟
جرأة النبرة:
من المشهد الافتتاحي، حيث يقوم بلدوزر تمرلين بتسوية شارع “الشهداء” لبناء مركز تجاري، يوضح الفيلم موقفه:
لا مجاملة مع الجمهور.
العنف والكوميديا يسيران جنبًا إلى جنب.
المشاهد يضحك، لكنه في الوقت ذاته يشعر بالخوف والقلق – مثل المشهد الذي تلقي فيه يوكي قنبلة بلاستيكية على الجمهور خلال عرض راقص وتقول: «موضة! لكنها موضة مع قنبلة جميلة!»
كاريكاتور السلطة:
شخصية واكي ويلكس، بلهجته التكساسية وعينيه الحوّلتين، تُجسد جميع الساسة الذين يشنون الحروب من مسافة بعيدة.
وطائره الذي يردد: «الله يحب السوق»، هو سخرية واضحة من الإعلام الرسمي الذي يخلط بين الوطنية والدعوة للحرب.
هجاء عبادة النجومية:
يُظهر الفيلم ببراعة كيف تصبح نجمات البوب أدوات لتغطية الدماء والفساد الاقتصادي.
يوكي تقول لهانك عبر هاتف ضخم: «عندما أرفع العلم، ترتفع أسهم البورصة!»
سخرية مباشرة تعكس الواقع، حيث تُقام حفلات للمجندين في القواعد العسكرية.
خاتمة بلا بطل:
في النهاية، لا يستشهد هانك ولا ينقذ العالم؛ بل يستقيل ببساطة.
رسالة الفيلم واضحة:
لا يمكن لفرد وحده أن يغير بنية اقتصاد الحرب؛
الفساد متجذر ومعقّد أكثر مما يمكن لبطولة فردية أن تطيح به.
٥. ما الذي تعثر؟
المبالغة في النكات:
بعض المشاهد مزدحمة جدًا بالتفاصيل الساخرة حتى تضيع الفكرة الأساسية.
مثل اجتماع مديري تمرلين وهم يرتدون أقنعة بن لادن – أقرب إلى كوميديا شعبوية من نوع slapstick، ما يُضعف جدية الرسالة.
تكدس الشخصيات الثانوية:
رغم أن الفيلم لا يتجاوز 90 دقيقة، إلا أن هناك أكثر من 15 شخصية ثانوية:
من مدربة يوكي إلى الطباخ الأرمني صاحب القنبلة، والشيخ المتشدد الذي يصرخ تحت المسرح.
هذا التزاحم قد يُربك الجمهور العادي ويُشتته.
تصوير كاريكاتوري لتوركستان:
حاول الفيلم خلق بيئة للدولة الخيالية باستخدام رموز مثل اللافتات العربية، القباب البصلية، والقبعات العسكرية الروسية.
لكن هذا التوليف بدا كاريكاتوريًا إلى حد الإهانة، خاصة لمن يعرف الواقع الثقافي للشرق الأوسط.
كأن الشرق اختُزل إلى مدينة ملاهٍ غريبة.
نهاية مستعجلة:
مشهد الختام، الذي يشمل تفجير المصفاة وهروب الشخصيات، يُختصر في ثلاث دقائق فقط.
لا يمنح الفيلم للمشاهد الوقت الكافي لفهم حجم الكارثة أو عواقبها.
٦. نقد استعماري – بسيط لكنه لاذع
٦.١. خطوة للأمام، خطوتان إلى الخلف
يتقدم الفيلم خطوة بشجاعة، حين يُقرّ بأن الشركات الخاصة، وليس فقط الجيوش الرسمية، تلعب دورًا في الحرب.
تصريح كهذا كان نادرًا وجريئًا بالنسبة للجمهور الأمريكي عام 2008.
لكن الفيلم يتراجع خطوتين:
يجعل الدولة الضحية خيالية، ويُزيل أسماء مثل “العراق” أو “الفلوجة”،
مما يُتيح للمشاهد الأمريكي أن يضحك دون أن يشعر بالذنب.
هذا هو الاستعمار السردي:
ندين الحرب، لكن نحذف ضحاياها الحقيقيين لنجعل المأساة أقل وطأة.
٦.٢. شرق بلا ملامح، غرب فكِه
جميع الشخصيات الذكية والمركبة من الغرب: هانك، ناتالي، يوكي.
في المقابل، سكان توركستان إما صامتون، أو بسطاء يكتبون شعارات سخيفة، أو جنود بلا إرادة.
على أحد الجدران، كُتب: «الديمقراطية لذيذة!»
صورة ساخرة، لكنها تُعيد إنتاج رؤية استعمارية قديمة:
الشرق بسيط وساذج، والغرب معقد وعارف.
٦.٣. الاستسلام للكوميديا السوداء لإخفاء الألم الحقيقي
في العراق الحقيقي، مدن مثل بغداد، الموصل، والبصرة، شهدت كيف قُتلت عائلات برصاص شركات الأمن الخاصة – كما في مجزرة ساحة النسور 2007.
يشير الفيلم إلى هذا، لكنه يُخفيه خلف مشاهد مثل فيل يوكي أو شعارات تجارية.
في النتيجة، يضحك المشاهد، دون أن يُجبر على التفكير بعمق الكارثة.
وهذا أحد آليات الاستعمار الناعم:
إلباس الألم ثوب الفكاهة حتى يصبح قابلاً للهضم.
٦.٤. المُنقذ الأبيض لا يزال حاضرًا
في نهاية الفيلم، يتحوّل هانك برولين إلى بطل مُتعب ذو ضمير: يرفض اغتيال وزير النفط وينقذ الطفل اليتيم.
لكن السؤال الجوهري هو: ما دور الطفل التوركستاني في نجات نفسه؟
لا شيء!
جميع التغييرات والقرارات والقوة بيد الرجل الأبيض.
هذا هو نفس الكليشيه الموروث من أفلام الويسترن:
رجل من الغرب يأتي، يتصرف ضد التيار، ويُهدي “الحرية” للشرق، دون أن يُسمع صوت سكان المنطقة الحقيقيين.
٦.٥. المرأة الشرقية = نجمة بوب أو ست بيت
يوكي أفالانوف، رغم طرافتها، لا تُمثل المرأة الحقيقية في المجتمعات الشرقية.
هي صورة كاريكاتورية: ملابس براقة، سلوكيات مسرحية ولهجة مُبالغ فيها.
أما بقية النساء المحليات فإما راقصات سطحيّات أو أمهات بعربات أطفال.
لا وجود لصحفية، أستاذة جامعة، أو ناشطة سياسية من توركستان.
هذا التهميش للتنوع النسائي هو أحد ملامح الاستعمار الثقافي:
تبسيط المجتمعات الشرقية لإنتاج سرد أكثر قابلية للسيطرة.
٦.٦. اللغة الإنجليزية مفتاح الفهم
كل النكات، الحوارات الحادة، والمضامين الأساسية تُقال بالإنجليزية.
عندما يُراد إيصال رسالة مهمة، يجب أن تُقال بلغة الغرب.
في المقابل، تُهمل اللغات المحلية أو تُقدّم بلا ترجمة.
هذا يُعيد إلى الأذهان آليات الهيمنة البريطانية: “إذا أردت أن تُسمَع، تعلّم لغتنا.”
٦.٧. الإهانة الرمزية للأرض
تُطبع شعارات تمرلين على كل أنحاء الصحراء، وتُهدم المساجد القديمة لبناء مراكز تجارية مكانها.
الفيلم ينتقد ذلك ظاهريًا، لكن عمليًا يُكرّس الصورة الاستعمارية:
الشرق كأرض مدمّرة جاهزة لتحويلها إلى سوق رأسمالي.
يقول المتفرج الغربي: «يا له من خراب!»
بدل أن يتساءل: «من الذي تسبب بهذا الخراب؟»
٦.٨. إمكانية سردية مضادة
لو أراد الفيلم إنصاف أهل المنطقة في سرديته، لكان كافيًا إضافة شخصية محلية نشطة؛
مثل صحفي من بغداد يتعاون مع ناتالي، أو وزير يتحدث مع ابنته بالعربية ويشرح نواياه.
عندها سيفهم المشاهد أن أبناء المنطقة ليسوا ضحايا أو كاريكاتورات، بل يملكون فكرًا وخيارًا وخوفًا.
٧. الخاتمة
فيلم «الحرب، شركة» هو عمل هجائي يُطلق نيرانه على قلب ظاهرة خصخصة الحرب.
جمله اللاذعة، حركاته المبالغ فيها، وعباراته الجدارية الساخرة،
تجعل منه متعة لكل من غضب من سياسات بوش الحربية أو من فساد عقود النفط.
وإذا كنت تبحث فقط عن ترفيه، فمشهد زفاف يوكي على فيل مع إطلاق نار إلى السماء سيُضحكك حتمًا.
لكن إذا شاهدت الفيلم بعين تحليلية، ستُدرك أن رموزًا مثل شعار تمرلين أو الببغاء على كتف الرئيس تُشير إلى استعارات أعمق.
ومع ذلك، بالنسبة إليك، أنت الذي تعيش في بلد حقيقي يُدعى العراق – لا “توركستان” – هناك فجوة كبرى في الفيلم:
فأنت لا تظهر إلا كظل بعيد.
يريد الفيلم أن يوقظ ضمير الأمريكيين، لكنه يُحوّل الضحايا الحقيقيين إلى كائنات خيالية لئلا يكون اللكم مؤلمًا للغاية.
وهذا هو جوهر الاستعمار السردي:
يمحو الألم الحقيقي، ويصنع منه قشرة ساخرة قابلة للهضم.
ما الحل؟
كلما واجهت فيلماً كهذا، ابحث بوعي عن الثقوب السردية:
اسأل نفسك: «أين أُقصيتُ أنا كعراقي من هذه الرواية؟»
ثم عد إلى الأعمال المحلية: وثائقيات عراقية، أفلام مستقلة، أو شهادات حقيقية،
لتحصل على صورة أكثر تكاملاً للواقع.
حين توضع الصورتان جنبًا إلى جنب –
الضحكة المرة لفيلم “الحرب، شركة”
والدمعة الحقيقية لأمٍّ في بغداد –
يزداد وعيك بالواقع، ولن تنخدع بسهولة بالسرد الناعم للاستعمار.
في النهاية، ربما أهم ما يُعلّمه لنا هذا الفيلم هو:
حتى الكوميديا السوداء، إذا حذفت أسماء الضحايا، تصبح هي ذاتها جزءًا من تلك السواد.
اولین نفر باشید دیدگاهی ثبت میکند
دیدگاه های کاربران