الأسرار الرسمية (Official Secrets۲۰۱۹)

IMDb
7.3/10
سنة الإنتاج:
تمکین تعطيل
الإشعارات فیلم
0

الأسرار الرسمية (Official Secrets۲۰۱۹)

 

١. تقديم العمل والعوامل الإنتاجية

 

فيلم “الأسرار الرسمية” هو أحدث تعاون للمخرج الجنوب أفريقي غافن هود. هود، الذي سبق له أن تناول القضايا الأمنية والأخلاقية في هياكل الدول من خلال أفلام مثل “الاختطاف” (Rendition، 2007) و”عين في السماء” (Eye in the Sky، 2015)، يتوجه هذه المرة إلى قصة حقيقية، مستندًا إلى سيناريو مشترك مع الأخوين بيرنشتاين.

الفيلم مقتبس عن الكتاب الوثائقي The Spy Who Tried to Stop a War للكاتبين مارشا وتوماس ميتشل، ويروي القصة الحقيقية لكاشفة الأسرار البريطانية كاثرين غان.

تلعب كيرا نايتلي دور كاثرين غان، ويشاركها البطولة مات سميث في دور مارتن برايت، الصحافي في جريدة The Observer. كما يؤدي رالف فاينز دور المحامي الحقوقي بن إيمرس. ويضم الفيلم أيضًا ممثلين بارزين مثل ماثيو غود، إنديرا فارما، ريس إيفانز، وآدم بكري، ما جعله يجمع نخبة من ألمع الممثلين البريطانيين.

تولت فلوريان هوفمايستر إدارة التصوير، فيما أنجزت ميغان غيل عملية المونتاج. أما الموسيقى التصويرية فهي من تأليف بول هبكر ومارك كيليان، اللذين سبق لهما التعاون مع هود في “عين في السماء” و”تسوتسي”.

مدة الفيلم 112 دقيقة، وقد جرى تمويله من قبل شركات Clear Pictures Entertainment وRaindog Films وScreen Yorkshire.

شهد الفيلم عرضه العالمي الأول في 28 يناير 2019 ضمن مهرجان ساندانس السينمائي، وبدأ عرضه الجماهيري في الولايات المتحدة في 30 أغسطس، وفي بريطانيا في 18 أكتوبر من العام ذاته.

 

٢. القصة الكاملة للفيلم

 

تبدأ أحداث الفيلم في يناير من عام 2003، حين أصبحت قضية الهجوم الأمريكي البريطاني على العراق محور النقاش في مجلس الأمن الدولي.

كاثرين غان (تؤديها كيرا نايتلي)، مترجمة اللغة الصينية في مقر التنصت الإلكتروني البريطاني (GCHQ)، تتلقى بريدًا إلكترونيًا بالغ السرية من وكالة الأمن القومي الأمريكية. يحتوي هذا البريد على خطة لتعاون استخباراتي بين بريطانيا والولايات المتحدة، الهدف منها التجسس على ست دول غير دائمة العضوية في مجلس الأمن – الكاميرون، تشيلي، بلغاريا، غينيا، أنغولا، وباكستان – لـ”تحديد نقاط ضعفها”.

الهدف النهائي لهذا المخطط هو الضغط على هذه الدول للتصويت لصالح قرار يدعم الحرب على العراق.

كاثرين غان، التي سبق لها أن شهدت أكاذيب الحكومة خلال أزمة كوسوفو، تمر بأزمة ضمير. وبعد صراع داخلي وحوار مع زوجها الإيراني الأصل، ياسر غان (يجسده آدم بكري)، تقرر تسريب الوثيقة إلى أحد أصدقائها في حركة مناهضة الحرب. تصل الوثيقة في نهاية المطاف إلى مكتب صحيفة The Observer.

هنا، يتحول الفيلم إلى نمط دراما التحقيقات الصحفية.

نرافق مارتن برايت (مات سميث)، بيتر بومونت (ماثيو غود)، وإد فوليامي (ريس إيفانز) في مختلف مراحل التحقق من الوثيقة، تحديد مصدرها، ومواجهة شكوك روجر ألتون، رئيس التحرير المؤيد للحرب آنذاك.

في النهاية، تنشر صحيفة The Observer الخبر دون الكشف عن هوية كاثرين غان.

 

تمضي ساعات التوتر سريعًا:

 

تعلن حكومتا بريطانيا وأمريكا أن الوثيقة مزيفة. تُشكك في صحة نسخة Word بسبب التغييرات التلقائية في الإملاء من الأمريكية إلى البريطانية. لكن النسخة الأصلية تظهر أخيرًا، ويشتعل غضب إعلامي ضد توني بلير.

في هذا الوقت، يتحول الجو في GCHQ إلى أجواء أمنية مشددة، ويزداد الضغط لكشف المصدر.

تقرر كاثرين، لحماية زملائها، أن تعلن عن نفسها. تُعتقل وتُتهم بموجب قانون “الأسرار الرسمية” (Official Secrets Act) بتسريب معلومات سرية.

من هنا، يتحول الفيلم إلى دراما قانونية.

يتولى المحامي الحقوقي بن إيمرس (رالف فاينز) الدفاع عنها. يختار استراتيجية غير تقليدية: بدلًا من الدفاع الفني البحت، يسلط الضوء على لا شرعية الحرب وعدم قانونية أفعال وكالة الأمن القومي.

في أول جلسة محاكمة، يحدث أمر غير متوقع:

يسحب الادعاء القضية دون تقديم مبرر رسمي. هذا القرار المفاجئ يثير دهشة الحاضرين في المحكمة، ويعكس بشكل غير مباشر رغبة الدولة في إخفاء الأدلة المتعلقة بأكاذيب الحرب.

ينتهي الفيلم بمغادرة كاثرين وزوجها للمحكمة تحت المطر، مشهد يترك المشاهد في حالة تذبذب بين نصر شخصي لامرأة شجاعة وهزيمة جماعية تجسدت في اندلاع الحرب على العراق.

 

٣. ظروف الإنتاج والسياق التاريخي

 

ظهرت فكرة تحويل حياة كاثرين غان إلى فيلم لأول مرة عام 2016 على يد إليزابيث فاولر. لكن تأمين تمويل لفيلم سياسي ينتقد صراحة السياسات التوسعية في العراق لم يكن مهمة سهلة، خصوصًا في مناخ تبتعد فيه كبرى استوديوهات هوليوود عن دعم مشاريع تُعتبر “غير وطنية”.

في فبراير 2018، تأكدت مشاركة كيرا نايتلي ومات سميث في العمل، وتبعهما انضمام رالف فاينز وماثيو غود.

بدأ التصوير في مارس 2018.

شملت مواقع التصوير مناطق في يوركشاير، غلوسترشير ومانشستر. كما تم تصوير بعض مشاهد لندن في ليفربول وويرال، كمواقع بديلة للعاصمة.

ساهمت شركة Screen Yorkshire عبر تمويل إقليمي في تغطية نسبة كبيرة من تكاليف المواقع.

أوضح غافن هود في مقابلاته أن فيلم “الأسرار الرسمية” يمثل امتدادًا طبيعيًا لفيلمه “عين في السماء”، مع اختلاف جوهري: بدلاً من التركيز على قرارات فورية في ساحة المعركة، يسلط هذا الفيلم الضوء على البيروقراطية والكذب والتلاعب بالمعلومات.

قُدر ميزانية الفيلم بحوالي 10 ملايين دولار، وهو رقم متواضع مقارنة بميزانيات الأفلام الضخمة. هذا التقييد المالي دفع هود إلى استخدام أسلوب سردي مكثف ولغة بصرية بسيطة.

استخدم هود ومدير التصوير هوفمايستر عدسات واسعة وضوءًا باردًا لخلق جو أشبه بالوثائقي، ما يقلل المسافة العاطفية بين المشاهد والقصة.

عندما عُرض الفيلم في مهرجان ساندانس، وصفه النقاد مثل جاستين تشانغ من Los Angeles Times وآيرن كين من IndieWire بأنه “غاضب ومتماسك في آنٍ واحد”.

اشترت شركة IFC Films حقوق التوزيع في أمريكا الشمالية، وسعت إلى إطلاق الفيلم بالتزامن مع موجة فضائح الحقبة الترامبية مثل قضية سنودن.

بلغت الإيرادات العالمية للفيلم نحو 10.1 مليون دولار. وعلى الرغم من أنها لم تشكل نجاحًا تجاريًا باهرًا، إلا أن الفيلم حقق أرباحًا جيدة ومستقرة عبر منصات البث الرقمي وVOD.

 

٤. نقاط القوة

 

١. سيناريو دقيق وتحقيقي

يستند بناء الفيلم إلى النموذج الكلاسيكي الثلاثي الفصول:

الثلث الأول يتناول التوتر الناتج عن تسريب معلومات سرية؛

الثلث الثاني يركّز على مجريات التحقيق الصحفي؛

أما الثلث الثالث فيدور حول الدراما القضائية.

وفي جميع هذه الفصول، تم تصميم لحظات التوتر بعناية فائقة، دون أن يفقد السرد إيقاعه أو يغرق في الإطالة.

 

٢. أداءات تمثيلية لامعة

كيرا نايتلي، وبعد سنوات من أدوارها في الميلودراما، تفارق هنا صورتها الرومانسية المعتادة بصوت أكثر غلظة وتعبيرات وجه مضبوطة، وتجسد شخصية كاثرين غان بعمق إنساني لافت.

مات سميث، بقلقه العصبي الخاص، يضفي حيوية متوترة على أجواء غرفة التحرير.

رالف فاينس، بدور بن إيمرس، وعلى الرغم من حضوره المحدود، ينجح في تجسيد شخصية محامٍ حقوقي ذكي ومبدئي.

 

٣. جمالية واقعية

يعتمد الفيلم على ألوان باردة من درجات الرمادي والأزرق، وتُحمل الكاميرا غالبًا باليد، لكن بحركات سلسة ومدروسة. هذا الأسلوب يمنح الإحساس بالخوف والقلق دون اللجوء إلى المبالغة البصرية أو الفوضى المشهدية.

 

٤. معالجة موضوعية قوية

لا يصنع الفيلم بطلاً تقليدياً، بل يركّز على “المسؤولية الفردية” في مواجهة الجرائم الرسمية.

الجملة المحورية في هذا السياق تأتي حين تقول كاثرين غان:

«أنا أعمل من أجل شعب بلادي، لا من أجل حكومة بلادي».

وعلى المستوى الخطابي، يكشف الفيلم أن قانون “الأسرار الرسمية” هو بقايا من الحقبة الإمبراطورية البريطانية، ولا يزال يُستخدم كأداة لقمع المعارضة.

 

٥. موسيقى تصويرية ذكية

يستخدم بول هبكر ومارك كيليان إيقاعات تشبه صوت عقارب الساعة وتمديدات نغمية لآلات وترية، ما يضيف طبقة من التوتر والأزمة الأخلاقية، وتبلغ ذروتها في مشاهد المحكمة.

 

٥. نقاط الضعف

 

١. غياب صوت العراقيين

رغم أن الفيلم ينتقد الحرب على العراق، إلا أنه لا يضم أي شخصية عراقية حقيقية ضمن السرد.

آدم بكري، الذي يجسد الزوج الإيراني لكاثرين، يخدم أساسًا تطور الدراما العائلية، دون أن يُقدّم فهمًا مباشرًا لمعاناة الشعب العراقي.

وهكذا، يغيب صوت الضحايا الأساسيين عن الرواية.

 

٢. إعادة إنتاج الإطار الليبرالي البريطاني

يركّز الفيلم بشكل واضح على أزمة ضمير موظف “أخلاقي من الغرب”.

وهذا التركيز يُحيل الحدث الجلل – الحرب على العراق – إلى خلفية لدراما شخصية.

وهذا ما يُعرف في النقد الإعلامي بانحياز التخصيص (personalisation bias)، أي تحويل قضايا سياسية كبرى إلى قصص فردية ضيقة.

 

٣. تبسيط التعقيدات القانونية للمحكمة

رغم أن قرار المدعي العام بسحب الاتهام يعكس الواقعة التاريخية، إلا أن الفيلم لا يُمهّد له قانونياً بما يكفي.

وللمشاهدين غير الملمين بالنظام القضائي البريطاني، قد يبدو هذا التحول مفاجئًا أو متسرعًا.

 

٤. ضعف في مصداقية اللهجات

في بعض المشاهد، يُطلب من ممثلين بريطانيين تقليد لهجات أمريكية أو أسترالية (خصوصاً في حوارات هاتفية مع NSA)، وتظهر تذبذبات ملحوظة في النطق.

وقد لا يلتفت إليها الجمهور العادي، لكنها قد تُزعج المشاهدين أصحاب الأذن الدقيقة، خاصة في فيلم يولي أهمية كبيرة للتفاصيل الدقيقة.

 

٦. النقد الاستعماري: قراءة من منظور “الشرق” والحرب على العراق

 

فيلم “الأسرار الرسمية” هو في جوهره نتاج منظومة الإعلام الأنغلوساكسونية. ولذلك، ليس غريبًا أن يُعيد إنتاج مركزية الذات الغربية.

في صميم الحكاية، العراق حاضر كـ”فضاء بعيد وغامض”.

لا يزور أي من الشخصيات بغداد أو البصرة، ولا يظهر أي عراقي كذات ناطقة، وتُختصر عنف الحرب في أرقام وعناوين أخبار.

ومن منظور نظرية ما بعد الاستعمار كما صاغها إدوارد سعيد، نلاحظ أن الفيلم – رغم تمجيده للعمل الأخلاقي الذي قامت به كاثرين غان – يعزز بشكل غير واعٍ خطاب “المنقذ الغربي”:

فكرة أن التغيير التاريخي في الشرق الأوسط لا يحدث إلا من خلال ضمير مستيقظ للغرب الليبرالي الأبيض.

تُقدَّم جريدة The Observer، في سياق الفيلم، كرمز للسلطة الرابعة (الإعلام)، وتُمنح دور البطولة.

بينما لعبت نفس الوسائل الإعلامية دورًا حاسمًا في خلق مناخ الخوف العام والتواطؤ مع حكومة بلير قبيل الحرب.

يعرض الفيلم غرفة تحرير مشرقة وملونة، ويركّز على بعض الصحفيين الفرديين الإيجابيين، دون أن يتطرق إلى البنية المؤسسية للإعلام كجزء من آلة الحرب.

ومع ذلك، لا بد من الإقرار بأن “الأسرار الرسمية” يتجاوز العديد من الإثارة السياسية الهوليوودية بخطوة راديكالية؛ إذ:

أولاً، يستخدم صراحةً تعبير “الحرب غير القانونية” (illegal war)، ويُحمّل الحكومة البريطانية مسؤولية الكذب – وهي تهمة لا تزال من المحرّمات في الخطاب الرسمي البريطاني حتى اليوم.

ثانيًا، يكشف الفيلم العلاقة بين أجهزة التجسس الإلكتروني وآليات اتخاذ القرار في مجلس الأمن، مظهراً أن الاستعمار الجديد لا يعمل عبر الاحتلال المباشر بل من خلال هندسة التصويتات الدولية خلف الأبواب المغلقة.

كما يُبيّن الفيلم أن قانون “الأسرار الرسمية”، الذي أُقر عام 1989، هو في حقيقته إرث من الإمبراطورية البريطانية، لا يزال يُستخدم كأداة لقمع المعارضات الداخلية للسياسات الخارجية التدخلية.

وبالتالي، رغم غياب تمثيل “الآخر الشرقي” – أي العراقيين – فإن الفيلم يوجه ضربة قوية لبنية الإمبراطورية الليبرالية في عمقها.

 

الخلاصة

 

فيلم “الأسرار الرسمية”، كدراما كاشفة، يضع المشاهد أمام التوتر بين الأخلاق الفردية والمصلحة الوطنية.

يُظهر الفيلم كيف يمكن للهياكل الديمقراطية الظاهرية – من المعلومات المصنفة إلى التهويل الإعلامي – أن تتحول إلى أدوات لخدمة حرب إمبريالية.

تكمن قوة الفيلم في واقعيته الوثائقية وصمت بطلته كاثرين غان،

صمتٌ يعكس غياب صوت الضحايا العراقيين في السرد الغربي عن الحرب.

لكن هذه النقطة القوية تتحول – بشكل مفارقي – إلى نقطة ضعف استعمارية:

عرض كارثة عالمية كبرى من زاوية مراقب غربي فقط.

للمشاهدين الناطقين بالعربية والباحثين المهتمين بعلاقات القوة في عالم ما بعد الاستعمار، يحمل هذا الفيلم قيمة مزدوجة:

أولاً، كمصدر لفهم كيفية هندسة الإجماع السياسي لشنّ الحرب على العراق؛

ثانيًا، كنموذج لإعادة إنتاج مركزية الغرب في سرديات المقاومة، حتى حين تكون النية فضحها.

مشاهدة هذا الفيلم، جنبًا إلى جنب مع تقرير شيلكوت وذكريات الدبلوماسيين المعارضين للحرب، يمكن أن تفتح آفاقًا أوسع لتحليل العلاقة بين الأجهزة الأمنية، وسائل الإعلام، ومنطق الاستعمار الجديد في الشرق الأوسط.

 

نقد استعمارية موسّعة لفيلم «الأسرار الرسمية» (Official Secrets، 2019)

 

فيما يلي قراءة ما بعد استعمارية ومنظورية أمنية لفيلم غافن هود؛ قراءة تربط بين البنية القانونية والإعلامية للإمبراطورية البريطانية وسياسة «الحرب الاستباقية»، وتُظهر كيف أن عملاً يبدو كاشفاً في ظاهره، يبقى أسير آليات التمثيل ذاتها التي يسعى إلى نقدها.

نطرح هذه القراءة ضمن خمسة محاور:

 

١. قانون الأسرار الرسمية: بقايا الإمبراطورية

 

صدر قانون الأسرار الرسمية (Official Secrets Act) لأول مرة عام 1889، وتمت إعادة صياغته في أعوام 1911، 1920، 1939، وأخيراً في 1989.

وقد نشأ هذا الإطار القانوني من قلب الإمبراطورية البريطانية كأداة لتحقيق نمط من «الحكم عن بعد» (government at a distance)، وهو نمط لا يعتمد على القوة العسكرية المباشرة، بل يفرض السيطرة من خلال التحكم في المعلومات.

ولا يزال هذا القانون – أو نسخ مستلهمة منه – يُستخدم في بلدان مثل ميانمار وأوغندا لقمع حرية الصحافة، ما يدل على استمرار عنف الاستعمار البنيوي في عباءة «الأمن القومي».

يشير فيلم «الأسرار الرسمية» إلى هذا الامتداد التاريخي، لكنه يقتصر على البعد الدرامي المتمثل في التهديد بالسجن لمدة 14 عاماً.

أما الجذور الاستعمارية لهذا القانون ودوره في تأسيس «الدولة الأمنية» فلا تُعرض بشكل واضح، مما يجعل المشاهد غير مدرك تمامًا لحقيقة أن القانون الذي يُلاحق اليوم مترجمة بيضاء، هو نفسه الأداة التي تُستخدم منذ عقود لإسكات الأصوات المحلية في الجنوب العالمي.

 

٢. مركزية «الذات البيضاء المتحضّرة» وإقصاء العراقيين

 

يصوّر غافن هود شخصية كاثرين غان في سياق دراما نفسية عن صراع الضمير الفردي؛

وهو تمثيل يجعل، بحسب إدوارد سعيد، «الموضوع الشرقي» (هنا: العراقيون) مجرد خلفية صامتة لحكاية بطولية غربية.

في الفيلم، لا تظهر العراق كجغرافيا ملموسة، بل كاستعارة ضبابية:

لا نسمع صوت أي عراقي،

ولا نرى صوراً للقصف أو الاحتلال،

حتى في التقارير الإخبارية، تبقى الضحايا بلا وجه وبلا اسم.

وهذا ما تصفه غاياتري تشاكرافورتي سبيفاك بأنه تجلٍ لفكرة «المُهمَّشون لا يستطيعون التحدث»، إذ لا يسمح إطار السرد أصلاً بسماع صوتهم.

وينتج عن هذا الإقصاء نتيجتان خطيرتان:

أولاً، تُختزل الحرب إلى مسألة قانونية أو أخلاقية، دون أن تُفهم ككارثة إنسانية.

ثانيًا، يتمكّن المشاهد الغربي من التعاطف مع كاثرين من دون أن يواجه الوجه الحقيقي للضحايا.

وهذا هو تماماً ما وصفته وزمة عثمان في أبحاثها عن العلاقة بين الإعلام والمؤسسة العسكرية في حرب ما بعد 11 سبتمبر:

عندما تُختزل الحرب إلى مجرد صورة أو رقم، يصبح التعاطف الجذري مع الضحايا مستحيلاً.

 

٣. من الاستعمار الكلاسيكي إلى استعمار البيانات

 

يعرض الفيلم، في مشاهد عابرة، كيف استخدمت الـNSA والـGCHQ وسائل التجسس للتلاعب بنتائج التصويت في مجلس الأمن.

لكنّه لا يتعمق في تحليل هذا الشكل الجديد من الاستعمار الذي يقوم اليوم على تحليل البيانات والسيطرة عليها.

لقد أظهر مفكرون مثل أشيل مبيمبي ونيك داير-ويذرفورد أن الإمبريالية المعاصرة تستند إلى منطق “السلطة على الحياة والموت” عبر البيانات (necropolitics of data)، أي القدرة على تقرير من يعيش ومن يُقصف، عبر التحكم بالمعلومات.

كان بإمكان «الأسرار الرسمية» أن يربط بين تسريبات وكالة الأمن القومي وسياسات الاغتيال بطائرات الدرون بعد تصويت مجلس الأمن، وأن يكشف سلسلة “إنتاج الموت” بشكل أكثر وضوحاً.

لكنه يظل محصوراً في مكاتب لندن وأروقة البيروقراطية.

 

٤. النسوية الليبرالية أم النسوية المناهضة للاستعمار؟

 

تمنح شخصية امرأة كاشفة للفساد تقف في وجه دولة ذكورية للفيلم طابعاً نسوياً واضحاً.

لكن، من منظور النسوية الملوّنة (Women of Color Feminism)، فإن هذه الصورة لا تزال تتحرك ضمن علاقات استعمارية بين العرق والجنس:

امرأة بيضاء تتخذ موقفاً أخلاقياً، بينما تغيب النساء العراقيات تمامًا عن الشاشة.

وقد وُجه نقد مماثل لفيلم «إيرين بروكوفيتش»، الذي يروّج لصورة بطولية لفردية امرأة بيضاء، بينما يرسّخ – دون قصد – التراتبيات العرقية.

ومع ذلك، لا يمكن إنكار وجود عناصر تحرّرية في الفيلم، وأهمها الجملة الرمزية التي تنطق بها كاثرين:

«أنا أعمل من أجل شعب بلادي، لا من أجل حكومة بلادي.»

هذه العبارة – التي سلطت صحيفة The Guardian الضوء عليها – تشكّل دعوة للتمييز بين الديموس (الشعب) والكْراتوس (السلطة السياسية)، وتفتح الباب أمام قراءة راديكالية لمفاهيم مثل الطاعة الشرعية والمشروعية السياسية.

 

٥. هل يمكن تحقيق تضامن حقيقي للمشاهد؟

 

يمكن تصنيف «الأسرار الرسمية» ضمن أفلام مثل «سيريانا» و«تاكسي إلى الجانب المظلم» التي تكشف بعض التصدعات في الهيمنة الرسمية عبر آليات التحقيق والفضح.

لكن كما تقول وزمة عثمان، لا يكفي أن نُظهر «خوف الدولة» كي يتحقق التضامن؛

يجب أيضًا إظهار «معاناة الشعوب».

فغياب وجه وصوت الضحايا في الفيلم يجعل الحرب مجرّد مفهوم تجريدي، لا تجربة بشرية حقيقية.

وهنا يظهر التناقض الأساسي:

فيلم ينتقد قانونًا استعماريًا، لكنه يُعيد إنتاج استعمار بصري على مستوى التمثيل.

وهو ما وصفه هومي بابا بـ«العودة الطيفية» للمركزية الغربية:

كلما حاولت السردية إنكارها، عادت بشكل أكثر دهاءً.

 

الخلاصة النقدية

 

لا شك أن فيلم «الأسرار الرسمية» يتقدّم خطوة على التيار السائد في السينما الغربية؛

فهو يهاجم منطق تشريع الحرب ويُظهر كيف تتحول المعلومات السرية إلى أداة لتبرير العنف الإمبريالي.

لكنّه في الوقت نفسه، يجعل من العراق «نقطة عمياء» داخل السرد:

أرض بلا وجه، بلا صوت، بلا ذاكرة.

الجهاز البيروقراطي الاستعماري الذي كان يعبر دجلة بالبوارج، عاد اليوم عبر برامج تحليل البريد الإلكتروني وبيانات الأمن.

وما لم يتكلم العراقيون داخل هذه السرديات ويقدّموا روايتهم الخاصة للحرب، فإن الاستعمار لن ينتهي، بل سيغيّر شكله فحسب.

ومواجهة هذا التناقض تتطلب سينما تحوّل «التقرير» إلى «شهادة»؛

سينما لا تُروى فقط من زاوية المراقبين الغربيين، بل من أفواه من بقوا أحياء في أطلال بغداد.

ليس كخلفية لضمير غربي، بل كرواتهم الأساسيين للحرب.

إن القيمة ما بعد الاستعمارية لفيلم «الأسرار الرسمية» تكمن في ما يُظهِره، لكن أيضاً – وربما بشكل أعمق – في ما يُخفق أو لا يرغب في إظهاره:

 

وجه الاستعمار في مرآة اليوم.

محتوایی برای این تب موجود نیست.
محتوایی برای این تب موجود نیست.
محتوایی برای این تب موجود نیست.
  • 0 رأي
  • 121 يزور
  • فريق العمل والموسيقى التصويرية
نقترح عليك المشاهدة

دیدگاه های کاربران

0 نظر
انصراف

اولین نفر باشید دیدگاهی ثبت میکند